سؤال الحجاج في “المنطق الطبيعي”

المنطق الطبيعي توجه ارتبط بمدرسة منطقية سويسرية بقيادة جون بليز كريز Jean-Blaise Grize (وهو بدوره أحد تلامذة رائد علم النفس البنائي الشهير جون بياجيه) وبريادة باحثين آخرين أمثال دينيس مييفيل Denis Miéville وماري جين بوريل MARIE-JEANNE BOREL، وهو توجه ينطلق من فهم مغاير للسائد من الفهوم حول طبيعة المنطق ووظائفه، إذ يرفض برامج الترييض التي تكثفت أشغالها على امتداد النصف الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويلح على أن اشتغال الفكر لا يحصل بالصيغ الرياضية الصارمة، بل في صورة عمليات منطقية خطابية تشتغل ضمن سيرورة تواصلية تتفاعل في خضمها ذوات لها وجود فعلي في أمكنة معينة وأزمنة مخصوصة وتنتمي إلى ثقافات متنوعة. بعبارة أخرى، إن التفكير الفعلي كما يمارسه سائر الناس هو تفكير يباين الخطاب الرياضي، فهو بالأحرى يأخذ شكل خطاب تنتجه ذات متعينة لذات متعينة أخرى، ومن ثم فإن الفاعلية الاستدلالية تتلون هي ذاتها بهذه الوضعية، فهي بهذا الاعتبار فاعلية حجاجية تحصل باللغة الطبيعية وتتفاعل داخل سياق اجتماعي ملموس. ويؤكد كريز في هذا السياق أننا حين ننظر إلى الخطاب باعتباره من إنشاء ذات لأجل ذات أخرى، فإن المقصود على وجه التحديد هو أن هذه الذات المنشئة (الذات التي تبني) تعرض أمام الذات الأخرى المتلقية صورة قولية كي تستعيد بناءها، وهذه الصورة هي عبارة عن مخزول خطابي schématisation discursive، ويقول كريز عن هذا المخزول: “حين نكتب أو نخاطب أو نقوم بأي فعل من أفعال التواصل، فإننا نمارس نشاطات بنائية معقدة، هي عبارة عن سيرورات من المبادلات التي تقوم بإنشاء عوالم من المعنى وتتشارك في إنشائها، وهذه العوالم نسميها مخزولات Schématisations. داخل المخزولات تتربع موضوعات الخطاب، موضوعات من إنشاء النشاطات الخطابية. إن الموضوعات تقيم علاقات فيما بينها، وهي تكون محكومة بفضاءات الاستدلالات، والحجاجات التي تندرج في هذه الاستدلالات يعتبر الخطاب أيضا مسئولا عن صوغها”.

يسمي كريز عملية إنتاج المخزول من ذات منتجة لذات متلقية مؤولة بالتواصل التخزيلي الخطابي، وهي عملية يتشارك في بنائها كل من المتكلم والمتلقي، فالمخاطب إذن أي لا يكتفي فقط بحل الرسالة التي يتلقاها (بالصورة التي يفترضها المنظور التواصلي التقليدي لشانون وفيبر) بل هو يستعيد بناء هذه الرسالة (المخزول) بنشاط إبداعي فريد، لأن المخزولات الخطابية تتضمن كثرة وثراء في المعاني التي تتولد على نحو إبداعي متواصل بفضل دلالات المفردات المستعملة، فهناك تفاعل متبادل بين المفردات والملفوظ الذي يحتويها، إذ كل مفردة لا تكتسب المعنى إلا في قلب المخزول الذي تنتمي إليه، كما أن المخزول ذاته لا ينتج المعنى إلا عن طريق المفردات التي يحتوي عليها. إن الأمر يتعلق بشيء يمكن تسميته “عرضا مشهديا” spectacle يجري وضعه أمام عيني المتلقي، عرض مشهدي زاخر بالصور التي ترتسم فيها طبقات متراكبة من تمثلات المتكلم حول ذاته وحول مخاطبيه وموضوعات الخطاب المتنوعة سواء عبر توصيفات صريحة أو من خلال المسالك المضمرة التي تجعل الذات تنكشف حتى دون أن يكون ذلك مقصودا من قِبَلها.

إن هذا الذي قيل لا يعني بتاتا أن المخزول يحصل بصورة عشوائية، فهو ــ كما أشرنا آنفا ــ حاصل تطبيق لعدد من العمليات المنطقية الخطابية، فهي عمليات منطقية لأنها فكرية، وهي عمليات خطابية لأنها تتمظهر عبر الخطاب، والمنطق الطبيعي هو على سبيل التعريف نظرية في هذه العمليات المنطقية الخطابية المسؤولة عن توليد تلك المخزولات، نظرية منطقية مباينة لمذاهب الصوريين في المنطق، لأن غايته لا تتمثل في تقنين الأطر الصورية للفكر، بل في البحث عن الآثار التي تخلفها العمليات المنطقية الخطابية في الخطاب.

إن المنطق الطبيعي هو بهذا المعنى نظرية في الحجاج أيضا، فطالما أنه يسلم بأن القول في المنطق والاستدلال لا يمكن حصره في المظهر الصوري، بل يتعين فيه استحضار الأبعاد التفاعلية، فإن الباب يغدو مفتوحا للعبور إلى الحجاج الذي يجسد الصورة التفاعلية للمنطق وللنشاط الاستدلالي، وهي الصورة التي طالما تجاهلتها النزعة الصورية المفرطة. وقد دافع هذا التوجه المنطقي على أن هذه الفاعلية الحجاجية هي الفضاء الخطابي الذي تنمو وتتفاعل فيه المخزولات، يقول كريز: “في المنظور الذي آخذ به، يتحقق المخزول دائما ضمن وضعية تخاطبية، وذلك بالوجه الذي يجعل من السياق عنصرا حاسما. إن هذا الأمر لا يسري فقط في المستوى الشفهي، فذلك من قبيل البديهيات، بل يسري أيضا في المستوى المكتوب. وسواء تعلق الأمر بفعل واع أم غير واع، فإننا لا نكتب أبدا إلا ضمن وضعية محددة. يترتب عن ذلك أن كل خطاب ينطوي على بعد حجاجي، وأن المخزول لا يبنى فقط أمام فرد من الأفراد، بل من أجله”.  والحجاج عند كريز هو “سعي يتوخى حمل السامع أو السامعين على التصرف بوجه ما”، وهو “دائما يبنى لشخص ما، عكس البرهان الذي هو “لأي كان”، فالأمر يتعلق إذن “بسيرورة حوارية مفترضة على الأقل”.

إن القول بأن مهمة المنطق الطبيعي تتمثل في بحث العمليات المنطقية الخطابية المسؤولة عن توليد المخزولات الخطابية في سياق التواصل الحجاجي، معناه أن النظر في الحجاج سينحو منحى الفحص الدقيق لـ “الطريقة التي يمكننا بها استعمال القول في خطاب حجاجي”. وفي هذا الموضع بالذات يتمايز توجه المنطق الطبيعي عن التوجه الذي يمثله ديكرو Oswald Ducrot وأنسكومبر Jean-Claude Anscombre الذي يعنى بـ”البحث في البنية اللسانية للملفوظات الحجاجية، وفي مختلف الآليات التي تتيح إمكان قيام الحجاج داخل اللغة” (أي أنه يرى في اللغة محلا للحجاج وليس أداة له فحسب)، لأن اهتمام المنطق الطبيعي يندرج ــ على كل حال ــ ضمن المفهوم التقليدي للحجاج بوصفه تكييفا خارجيا للآلة اللغوية، تكييفا يستهدف تسخير اللغة كي تنخرط في مهمة سوسيوسيكولوجية نواتها الأساس هي التأثير في المخاطب وحمله على الاقتناع وما يقتضيه ذلك من حض على العمل. إن المنطق الطبيعي ينصرف إذن إلى العناية ــ كما عبر عن ذلك مييفيل بالعمليات الأساسية التي تفصح عن آليات الفكر في الخطاب في سياق سعي هذا الفكر لبناء عوالمه المعرفية.. وعلى هذا الأساس سيجري تتبع الأسرار الكامنة خلف الفعالية التي تمتاز بها الأقوال في مجال الحجاج، أي البحث في عناصر القوة الحجاجية لهذه الأقوال، والخصائص التي تجعل منها قادرة على توجيه المخاطبين، وهي خصائص لا يمكن حصرها فيما سماه ديكرو ضمن أعماله المتقدمة بآليات التوجيه المركوزة في بنية اللغة، أي العلاقات الحجاجية الشكلية، بل بالعناصر الأخرى التي لها أهمية كبرى في تحريك المخاطب وتحفيزه للعمل. من هنا كان توجه المنطق الطبيعي أكثر انشغالا بالجوانب المضمونية من الخطاب الطبيعي، وهي تشمل مختلف الإجراءات اللغوية التي يعمد إليها المتكلم للزيادة من الفعالية الحجاجية لخطابه، من قبيل اختيار المفردات المستعملة، وتنظيم العبارات داخل الخطاب وترتيبها، وإبراز الوحدات في الخطاب وتبئيرها وإحاطتها بهالة إشعاعية خاصة، واستخدام الصور المجازية المتنوعة وعلى رأسها الاستعارة. فبفضل هذه الإجراءات الخطابية يتمكن المتكلم من تزويد موضوعاته بلُمَع éclairages تكسبها قيما معينة في علاقة بقواعد معيارية مخصوصة، فالذي يحاجج ـــ كما يقول كريز ـــ “لا يكتفي بوصف أوضاع معينة، فهو يثير في نفس الوقت معرفة بكاملها عند المستمع، فاختيار المفردات التي يوظفها والمجالات الاستعارية التي يقتبس منها، لن تعمل فقط على إحضار المعلومات التي يقصد إلى إيرادها، وإنما ستقوم أيضا بتلميع ما يريد بيانه إيجابيا أو سلبيا، وستحرك المشاعر وردود الأفعال لدى المخاطبين”. ومهمة المنطق الطبيعي تتمثل في ملاحقة كل هذه العمليات عبر دراسة استقصائية متأنية للآثار التي تخلفها في الخطاب، وعبر تتبع لصور اشتغال الذات في إنتاج هذه العمليات، وهو ما يعني أن المنطق الطبيعي هو بخلاف المنطقيات التقليدية، منطق ذات وموضوع في آن واحد.

المصدر : موقع أواصر

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *