لقد كان الغرض المعلن من نشر كتاب “الحجاج والمغالطة” هو المساهمة في ما يبذل من جهد غايته الرفع من الرصيد المعرفي والمهاري والتربوي المتعلق بأمور التواصل الحواري وجعل هذه الممارسة (التواصلية الحوارية) وثيقة الصلة بالقواعد التي تضمن حصولها منضبطة بقيم العقل ومعاييره المعتبرة.. وقد أكدنا في مواضع عدة من الكتاب على مسلمته الكبرى التي نعيد صوغها هاهنا بالقول إن الجهد الذي يُبذل في تلمس طريق المعقولية في كل باب من أبواب التفكر في شؤون النظر أو العمل لن يكون ذا مفعول يذكر أو ثمرة تُشكر ما لم يُحَط هذا الجهد بسياج من الضوابط المنهجية المنطقية التي تضمن سريان التحاور بوجه يتسدد فيه السير ويُقتصد فيه الجهد ويُتحرز فيه من شطط القول وخبطه، ومن عبث القصد وخبثه، ضوابط تحمل المتواصلين المتحاورين حملا على التزام سبيل الهدى في حوارهم فيسلكون “سويا على صراط مستقيم” ولا يندفعون “مكبين على وجوههم”.
وقد جرت في واقع الأمة العربية منذ صدور الكتاب في طبعته الأولى (2010) مياه كثيرة تدفقت سيولها في خضم عقد مرت سنواته حافلة بالأحداث السياسية الهائلة والتقلبات الاجتماعية العاصفة، والتي كانت مناسبة لقراءة الكتاب على أضواء كاشفة، بالنظر إلى ما واكب ذلك من صنوف المجادلات والمناقشات وتفاعل الآراء المتخالفة وتراشق المذاهب المتناكفة التي أثمرتها تلكم الأحداث، والظاهر أن الخلاصة الكبرى التي يخلص إليها المتابع هي أننا بالفعل بحاجة إلى مزيد من منطق الحوار ومنهجه، وبحاجة إلى عقل في الحوار أكثر من حاجتنا إلى حوار في العقل. فلا سبيل إلى الخلاص دون تعزيز الأرضية الصلبة الكفيلة بإسناد مذهبية الحوار العاقل وتقوية الأسس الكفيلة بإشاعة ثقافة الحجاج المستبصر بقواعد المنطق وأصوله الراسخة، وإلا فإن الساحة ستظل مستباحة من قوى التدمير والخرَق الفكري والسلوكي.
لقد زاوجنا في تضاعيف الكتاب بين الحديث عن الحجاج العاقل وعن نقيضه المتمثل في المغالطة أو السفسطة أو ما اصطلحنا عليه أحيانا بالحجة المعوجة، والمقصود بهذه الاصطلاحات عموما مجمل المسالك التي تُفَرط في ضابط أو أكثر من ضوابط المعقولية المتعارفة وتركب مراكب غير حميدة في مسعاها “الحواري” فيكون الغرض المحرك لأربابها ليس هو عرض الرأي في معرض من الآراء المتخالفة وبيان ما يحتف به من مزايا ترقى به في سلم المعقولية، بل فرضه فرضا لا تُقبل فيه معارضة ولا مخالفة، أو إحاطته بضروب من التمويهات الحالية أو اللفظية التي تصرف أذهان السامعين عما يشوبه من خلل أو خطل.. كل ذلك بغرض التهرب من أعباء التدليل التي عليها التعويل في ميدان التحاور العاقل.. إن درس وجوه السفسطة في معرض الحديث عن الحجاج هو مسلك دارج في أدبيات النظر المنطقي منذ أرسطو وإلى يوم الناس هذا، وهو مسلك وجيه على اعتبار أن كمال التدبير في نصرة العقل لا يحصل بغير التصدي لنقيضه المتمثل في ضروب الشغب والسفه والخرَق التي تحرف النظر عن سواء السبيل.
لقد كان المعين الذي نهلنا منه في كتاب “الحجاج والمغالطة” هو المنطق لا شك في ذلك، وقد سعينا من طرف خفي إلى التنبيه على ما يَكمن من نفع في وصل الفاعلية الفكرية والعملية بهذا الحقل العلمي والمنهجي النفيس، ونحب هاهنا أن نشير بوضوح إلى الخطأ الكامن في رأي قديم ما زال يحظى للأسف ببعض المناصرة حديثا، رأي لا يرى فائدة ترجى من درس المنطق وتعلم فنونه.. وهذا الرأي في نظرنا كان عاملا في إضعاف ملكة التفكير السوي لدى أجيال من الطلبة والباحثين في الجامعات العربية الذين انقطعت صلتهم بعلوم الاستدلال فضمرت لديهم هذه الملكة التي بدونها لا ترجى نهضة عقلية صلبة الأسس متينة البنيان.
إن هذا الرأي يرتكز في تقديرنا على خطأ آخر شائع وموروث أيضا يتمثل في “تقزيم” حقل النظر المنطقي وحصره ضمن مباحث ما هي في الواقع إلا جزء يسير من جغرافيته الممتدة بامتداد الفاعلية الفكرية التدليلية التي تَواضع نظار هذا المبحث قديما وحديثا على عدها مجال الاشتغال في هذا المبحث.. ولقد جرى في العقود الأخيرة تقويم هذا العطب الذي عانى منه المنطق على امتداد قرون متطاولة بأن أعيد الاعتبار لأبواب طالها النسيان، وخصوصا مباحث الجدل والخطابة التي كانت تحتل في برنامج الدرس المنطقي الأرسطي منزلة لا تقل عن منزلة البرهان، لأنها تنظر في وجه من وجوه النظر الاستدلالي له حضوره المكثف في الفاعلية الفكرية للإنسان، والمقصود هاهنا هو الاستدلال الحاصل بغرض الإقناع وعلى جهته، أي الاستدلال الذي يروم كما ذكر رائد الحجاج المعاصر (وأحد المساهمين الكبار في هذه “الحركة التصحيحية”) البلجيكي “شاييم بريلمان” Chaïm Perelman “استثارة أو تقوية مقدار ميل النفوس إلى الدعاوى التي نعرضها عليها بغية التصديق بها”، فالاستدلال الإقناعي (بوجوهه المختلفة) جزء لا يتجزأ من الموضوع الدراسي الذي تتصدى له النظرية المنطقية، ومعنى ذلك أن الحاجة إلى المنطق أضحت أكثر إلحاحا ما دمنا نعيش اليوم عصرا صار فيه الإقناع “عملة صعبة” يعلو شأن من حاز أسرارها، ويسفل قدر من أخطأ مواردها. وهذا الشطر من الدرس المنطقي الذي يعنى بالاستدلال الإقناعي هو الذي استقر عرف الدارسين على تسميته بالحجاج تمييزا له عن البرهان، وهو صرح دراسي راسخ لا سبيل إلى المنازعة في قيمته إلا بالوجه الذي قد ينازع به عابث في قيمة التفكير الطبيعي الذي يجري في شؤون الناس الاعتيادية ضمن مدارات الحياة وتفاعلاتها في ميادين التعامل المجتمعي العام، وفي المدافعات التي تحصل ضمن الاجتماع الإنساني بمجالاته الخلقية والسياسية والاقتصادية… وحتى في الشطر الأكبر من الفاعلية العلمية والفكرية والفلسفية
إن “منطق الحجاج” إذن جزء مكمل في النظرية المنطقية العامة لمنطق الاستدلال التحليلي، فإذا كان هذا الأخير مداره القطع و”اليقين” بفضل مقدماته الضرورية وصورته الاستنباطية الصحيحة، فإن منطق الحجاج يتصدى لوجوه من التفكير التقريبي الترجيحي الذي تكون منطلقاته عبارة عن قضايا تشتهر بين الناس ويغلب الظن في صدقها بينهم، وهي على الرغم من صدقها الجزئي المظنون هذا تكتسي أهمية بالغة تعادل (إن لم تكن تجاوز) أهمية القضايا القطعية الضرورية، ويكفي أن أغلب ما يُخاض فيه من مجادلات سياسية ودينية وخلقية وفنية وفلسفية… هي من هذا القبيل، أمور تقاس بمنطق لا صوري تحتل فيه المضامين وما يعتمل فيها من قيم مقاما أساسا، وهو ما جعل بريلمان يستشعر الخطر المحدق الكامن في دعوى من يدعي أن المنطق هو بالحصر منطق صوري، لأن من شأن هذه الدعوى أن تفضي إلى صد المنطق عن سائر المجالات التي لا تنضبط لقواعد الاستدلال الاستنباطي ولا تخضع لمواضعات الحساب الصورية الصارمة، وهو ما يوشك أن يدع هذه المجالات (على خطورتها النظرية والعملية) نهبا لضروب من التفكير الأخرق ويفتح أبوابها للأدعياء من محترفي الشعوذة والتضليل أو يزين قول من يقول إن هذه المضامير التي لا يمتد إليها “نور العقل” لا ينفع فيها سوى منطق الحديد والنار.
إن كتاب “الحجاج والمغالطة” هو نافذة صغيرة للإشراف على هذا الحقل الدراسي الحجاجي الفسيح والنفيس، وهو دعوة للسير في شعابه والنهل من معينه، لأن من شأن ذلك أن يعزز صلة الثقافة العربية بالدرس المنطقي عبر طريق تنكشف من خلاله أهمية هذه الصناعة وما يتصل بها من معارف ومهارات لا مفر لمن أراد الارتقاء في مراقي القول الحكيم من لزوم مقتضياتها، فباب الحكمة لا يُجاز بغير إحكام القول
المصدر : موقع أواصر