هناك ما يقارب الإجماع على أن كتاب استعمالات الحجاج The Uses of Argument لستيفن إدلسون تولمين Stephen Edelston Toulmin من الكتب الاستثنائية في قيمته العلمية والنظرية، فهو واحد من بين اثنين من الكتب التي كان لها الفضل المباشر في بعث الدرس الحجاجي في صورته المعاصرة. وقد عبر العالم الهولندي في هذا الحقل وأحد الرائدين في النظرية الحجاجية راهنا فان إيمرنHendrik van Eemeren Frans عن هذا الأمر بالقول « يعدّ كتاب استعمالات الحجاج منذ أكثر من أربعين سنة، مصدرا للإلهام في أوساط الدارسين للحجاج من سائر الخلفيات التخصصية، لا فيما يخص آراء تولمين بشأن خاصية التابعية للحقل التي تَسِم معايير الصحة فحسبُ، بل كذلك فيما يتعلق بنموذجه المتمثل في « أنسوقة الحجاجات »، وما يتصل بها من توصيفات يتضمنها هذا النموذج فيما يخص الخطوات الوظيفية ضمن العملية الحجاجية، التي جعلت من هذا الكتاب عمدة في مجال الدرس الحجاجي الحديث”.
لا تقف أهمية هذا الكتاب عند حدود النظرية الحجاجية فحسب، بل تمتد إلى دوائر بحثية أوعى وأوسع، فالكتاب حافل بالمناقشات العميقة في قضايا فلسفة العلم والإبستيمولوجيا والمنهجيات والمنطق النظري والتطبيقي والأخلاق والجماليات والثيولوجيا والميتافيزيقا.. يبحر فيها مسائلا بجرأة كثيرا من الأسس التي رَسَخَت في هذه الميادين البحثية ومراجعا العديد من المسلمات التي أحاطتها النماذج الفلسفية التي سادت منذ بداية القرن المنصرم بأسيجة حامية، جاعلة من كل محاولات النقد والاعتراض هدفا لسهامها، خصوصا ما درج عليه الفلاسفة التحليليون الصوريون من إعلاء لشأن التفكير الاستنباطي البرهاني وما يرتبط به من مناهج منطقية ومبادئ في الاشتغال الإبستيمولوجي والفلسفي، على حساب أنماط التفكير الطبيعية والتداولية. فكتاب تولمين هذا من الأعمال الكبرى التي تصدت للنظر في هذه القضايا باستحضار قوي لزخم الأفكار التي تتفاعل ضمن فضاء الفلسفة الإنجليزية بروافدها المتنوعة وباستصحاب للجدل القائم بين تياراتها الكبرى التي تتلاقى خيوطها على امتداد صفحات الكتاب في مناقشات تتداخل فيها قضايا العلم والأخلاق والجمال والثيولوجيا…
إن القيمة الاستثنائية لكتاب “استعمالات الحجاج” تشهد لها كثافة الرجوع إليه من قبل الدارسين في أبواب النظرية الحجاجية، وفي مجالات فلسفة العلم والإبستيمولوجيا.. فمن العسير العثور على كتاب جاد في مضمار الدرس الحجاجي لا يخصص لتولمين حيزا وافيا، ولا سبيل إلى الوقوف على عمل رصين في فلسفة العلم لا يستعرض آراء تولمين وأطروحاته، وقد بقي تعامل الفكر العربي في هذه الأبواب مع مساهمات تولمين خجولا محتشما بسبب غياب ترجمات عربية لأعماله، ونحن نتصور أن الترجمة التي وفقنا الله في إنجازها لهذا العمل الأساسي إلى اللغة العربية ستكون لها منافع كبرى في وصل الدرس الحجاجي العربي بأصل من أصول السؤال الحجاجي في ميلاده المعاصر، وبمد الباحثين العرب في مجال فلسفة العلم والإبستيمولوجيا بسفر نفيس في هذا المضمار.
ما يزكي القول براهنية هذا الكتاب أطروحته الكبرى التي لا تنفصل في أصلها عن التوجه العام الذي عرف به ستيفن تولمين في سائر أعماله. ويمكن إجمال هذه الأطروحة في عبارة “الدعوة إلى كسر النظرة الشمولية التي تسعى إلى فرض منظومات مفهومية عليا على سائر فاعليات التفكير”، وهو ما اصطلح عليه تولمين نفسه بسطوة المبادئ The Tyranny of Principles. إن كتاب استعمالات الحجاج محاولة لترجمة هذه الأطروحة في حقل مخصوص، هو حقل النظرية المنطقية وامتداداتها الإبستيمولوجية والفلسفية، فقد سعى تولمين في الفصول الخمسة من هذا الكتاب إلى الكشف عن الاختلالات التي تحصل حين تصر النظرية المنطقية (خصوصا نموذجها التحليلي) على الانفصال عن الممارسة المنطقية، وحين تحرص على التطبيق الشمولي للمقولات المنطقية المصورنة على سائر الحقول الحجاجية، أي حين تسعى بإلحاح في إخضاع المعرفة بتمامها لمنظومات منهجية ومنطقية محصورة، يمكن – بزعمها – أن تقود حركة الفكر عبر مختلف الحقول الحجاجية، بنحو تتهاوى معه الحدود التي تتمايز بها هذه الحقول، وتزول الاختلافات النوعية بين المشكلات المتميزة لكل حقل حقل. إن كتاب “استعمالات الحجاج” سعي حثيث وعميق لإبطال هذا المنظور وللدفاع عن أهمية التنوع المعرفي وللتنبيه إلى الانزلاق الذي يحصل باعتماد هذا الضرب من النماذج الأحادية في بناء المعقولية وتقويمها، فالمعقولية في أصل طبيعتها متعددة بتعدد معاييرها ولا يحق لهذا النموذج أو ذاك أن يُنَصِّب ذاته حكَما ومرجعا، ويضيق الخناق على غيره من النماذج المعرفية الأخرى.. أي أن الكتاب يندرج ضمن الأعمال التي تنحاز لمبدأ التنوع والتعدد في الثقافة الإنسانية لا الأحادية والانغلاق التي كانت في الماضي القريب وما زالت إلى يوم الناس هذا آفة يتخبط فيها الفكر المعاصر وتوشك أن تسلمه إلى ضروب من الصراع والتنازع الذي يهدم ولا يبني.
المصدر: موقع أواصر